فصل: السلام على النبي نوعان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


صلى الله عليه بها عشرا‏.‏ ومن سلم عليه مرة سلم الله عليه عشرا‏.‏ كما قد جاء في بعض الأحاديث‏.‏ وتخصيص الحجرة بالصلاة والسلام جعل لها عيدا، وهو قد نهاهم عن ذلك، ونهاهم أن يتخذوا قبره أو قبر غيره مسجدا‏.‏ ولعن من فعل ذلك ليحذروا أن يصيبهم مثل ما أصاب غيرهم من اللعنة‏.‏

 وكان أصحابه خير القرون، وهم أعلم الأمة بسنته، وأطوع الأمة لأمره، وكانوا إذا دخلوا إلى مسجده لا يذهب أحد منهم إلى قبره /لا من داخل الحجرة ولا من خارجها‏.‏ وكانت الحجرة في زمانهم يدخل إليها من الباب إذ كانت عائشة ـ رضي الله عنها ـ فيها، وبعد ذلك إلى أن بني الحائط الآخر‏.‏ وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون إليه، لا لسلام، ولا لصلاة عليه، ولا لدعاء لأنفسهم، ولا لسؤال عن حديث أو علم، ولا كان الشيطان يطمع فيهم حتى يسمعهم كلاما أو سلاما فيظنون أنه هو كلمهم وأفتاهم وبين لهم الأحاديث، أو أنه قد رد عليهم السلام بصوت يسمع من خارج، كما طمع الشيطان في غيرهم، فأضلهم عند قبره، وقبر غيره، حتى ظنوا أن صاحب القبر يحدثهم ويفتيهم ويأمرهم وينهاهم في الظاهر، وأنه يخرج من القبر ويرونه خارجا من القبر، ويظنون أن نفس أبدان الموتي خرجت من القبر تكلمهم، وأن روح الميت تجسدت لهم فرأوها، كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج يقظة لا مناما‏.‏

فإن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ خير قرون هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس‏.‏ وهم تلقوا الدين عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، ففهموا من مقاصده صلى الله عليه وسلم وعاينوا من أفعاله وسمعوا منه شفاها ما لم يحصل لمن بعدهم‏.‏ وكذلك كان يستفيد بعضهم من بعض ما لم يحصل لمن بعدهم، وهم فارقوا جميع أهل الأرض وعادوهم، وهجروا جميع الطوائف وأديانهم، وجاهدوهم بأنفسهم /وأموالهم، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه‏)‏‏.‏ وهذا قاله لخالد بن الوليد لما تشاجر هو وعبد الرحمن بن عوف؛ لأن عبد الرحمن بن عوف كان من السابقين الأولين، وهم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وهو فتح الحديبية وخالد هو وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة أسلموا في مدة الهدنة بعد الحديبية وقبل فتح مكة، فكانوا من المهاجرين التابعين، لا من المهاجرين الأولين‏.‏ وأما الذين أسلموا عام فتح مكة فليسوا بمهاجرين، فإنه لا هجرة بعد الفتح، بل كان الذين أسلموا من أهل مكة يقال لهم‏:‏ الطلقاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلقهم بعد الاستيلاء عليهم عنوة كما يطلق الأسير‏.‏ والذين بايعوه تحت الشجرة هم ومن كان من مهاجرة الحبشة هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وفي الصحيح عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال‏:‏ قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية‏:‏ ‏(‏أنتم خير أهل الأرض‏)‏‏.‏ وكنا ألفا وأربعمائة‏.‏

ولهذا لم يطمع الشيطان أن ينال منهم من الإضلال والإغواء ما ناله ممن بعدهم، فلم يكن فيهم من يتعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان له أعمال غير ذلك قد تنكر عليه‏.‏ ولم يكن فيهم أحد من / أهل البدع المشهورة‏:‏ كالخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة والجهمية‏.‏ بل كل هؤلاء إنما حدثوا فيمن بعدهم‏.‏ ولم يكن فيهم من طمع الشيطان أن يتراءي له في صورة بشر، ويقول‏:‏ أنا الخضر، أو أنا إبراهيم، أو موسي، أو عيسي، أو المسيح، أو أن يكلمه عند قبر حتى يظن أن صاحب القبر كلمه، بل هذا إنما ناله فيمن بعدهم، وناله ـ أيضا ـ من النصاري حيث أتاهم بعد الصلب وقال‏:‏ أنا هو المسيح، وهذه مواضع المسامير ـ ولا يقول‏:‏ أنا شيطان، فإن الشيطان لا يكون جسدا ـ أو كما قال‏.‏ وهذا هو الذي اعتمد عليه النصاري في أنه صلب، لا في مشاهدته؛ فإن أحدا منهم لم يشاهد الصلب، وإنما حضره بعض اليهود وعلقوا المصلوب وهم يعتقـــدون أنه المسيح‏.‏ ولهذا جعله الله من ذنوبهم وإن لم يكونوا صلبوه‏.‏ لكنهم قصدوا هذا الفعل وفرحوا به، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَي ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إليه وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏}‏‏[‏النساء‏:‏ 156‏:‏ 158‏]‏، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏

والمقصود أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ لم يطمع الشيطان أن يضلهم كما أضل غيرهم من أهل البدع، الذين تأولوا القرآن على غير تأويله، أو جهلوا السنة، أو رأوا وسمعوا أمورا من الخوارق فظنوها من جنس آيات /الأنبياء والصالحين وكانت من أفعال الشياطين‏.‏ كما أضل النصاري وأهل البدع بمثل ذلك‏.‏ فهم يتبعون المتشابه ويدعون المحكم‏.‏ وكذلك يتمسكون بالمتشابه من الحجج العقلية والحسية فيسمع ويري أمورا فيظن أنه رحماني وإنما هو شيطاني، ويدعون البين الحق الذي لا إجمال فيه‏.‏ وكذلك لم يطمع الشيطان أن يتمثل في صورته ويغيث من استغاث به‏.‏ أو أن يحمل إليهم صوتا يشبه صوته؛ لأن الذين رأوه علموا أن هذا شرك لا يحل‏.‏ ولهذا ـ أيضا ـ لم يطمع فيهم أن يقول أحد منهم لأصحابه‏:‏ إذا كانت لكم حاجة فتعالوا إلى قبري، واستغيثوا بي، لا في محياه ولا في مماته، كما جري مثل هذا لكثير من المتأخرين‏.‏ ولا طمع الشيطان أن يأتي أحدهم ويقول‏:‏ أنا من رجال الغيب، أو من الأوتاد الأربعة، أو السبعة، أو الأربعين‏.‏ أو يقول له‏:‏ أنت منهم‏.‏ إذ كان هذا عندهم من الباطل الذي لا حقيقة له‏.‏ ولا طمع الشيطان أن يأتي أحدهم فيقول‏:‏ أنا رسول الله، أو يخاطبه عند القبر، كما وقع لكثير ممن بعدهم عند قبره وقبر غيره وعند غير القبور‏.‏ كما يقع كثير من ذلك للمشركين وأهل الكتاب، يرون بعد الموت من يعظمونه من شيوخهم‏.‏

فأهل الهند يرون من يعظمونه من شيوخهم الكفار وغيرهم‏.‏ والنصاري يرون من يعظمونه، من الأنبياء والحواريين وغيرهم‏.‏ والضلال من أهل القبلة يرون من يعظمونه؛ إما النبي صلى الله عليه وسلم، /وإما غيره من الأنبياء يقظة، ويخاطبهم ويخاطبونه‏.‏ وقد يستفتونه ويسألونه عن أحاديث فيجيبهم‏.‏ ومنهم من يخيل إليه أن الحجرة قد انشقت وخرج منها النبي صلى الله عليه وسلم وعانقه هو وصاحباه‏.‏ ومنهم من يخيل إليه أنه رفع صوته بالسلام حتى وصل مسيرة أيام وإلى مكان بعيد‏.‏ وهذا وأمثاله أعرف ممن وقع له هذا وأشباهه عددا كثيرا‏.‏ وقد حدثني بما وقع له في ذلك، وبما أخبر به غيره من الصادقين من يطول هذا الموضع بذكرهم‏.‏ وهذا موجود عند خلق كثير كما هو موجود عند النصاري والمشركين، لكن كثير من الناس يكذب بهذا، وكثير منهم إذا صدق به يظن أنه من الآيات الإلهية، وأن الذي رأي ذلك رآه لصلاحه ودينه‏.‏ ولم يعلم أنه من الشيطان، وأنه بحسب قلة علم الرجل يضله الشيطان‏.‏ ومن كان أقل علما قال له ما يعلم أنه مخالف للشريعة خلافا ظاهرا‏.‏ ومن عنده علم منها لا يقول له ما يعلم أنه مخالف للشريعة ولا مفيدا فائدة في دينه، بل يضله عن بعض ما كان يعرفه، فإن هذا فعل الشياطين، وهو وإن ظن أنه قد استفاد شيئا فالذي خسره من دينه أكثر‏.‏

ولهذا لم يقل قط أحد من الصحابة‏:‏ إن الخضر أتاه، ولا موسي ولا عيسي، ولا أنه سمع رد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وابن عمر كان يسلم إذا قدم من سفر ولم يقل قط‏:‏ إنه يسمع الرد‏.‏ وكذلك التابعون وتابعوهم‏.‏ وإنما حدث هذا من بعض المتأخرين‏.‏

/وكذلك لم يكن أحد من الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ يأتيه فيسأله عند القبر عن بعض ما تنازعوا فيه وأشكل عليهم من العلم، لا خلفاؤه الأربعة ولا غيرهم‏.‏ مع أنهم أخص الناس به صلى الله عليه وسلم، حتى ابنته فاطمة ـ رضي الله عنها ـ لم يطمع الشيطان أن يقول لها‏:‏ اذهبي إلى قبره فسليه‏:‏ هل يورث أم لا يورث‏؟‏ كما أنهم ـ أيضا ـ لم يطمع الشيطان فيهم فيقول لهم‏:‏ اطلبوا منه أن يدعو لكم بالمطر لما أجدبوا‏.‏ ولا قال‏:‏ اطلبوا منه أن يستنصر لكم‏.‏ ولا أن يستغفر، كما كانوا في حياته يطلبون منه أن يستسقي لهم، وأن يستنصر لهم، فلم يطمع الشيطان فيهم بعد موته صلى الله عليه وسلم أن يطلبوا منه ذلك‏.‏ ولا طمع بذلك في القرون الثلاثة‏.‏ وإنما ظهرت هذه الضلالات ممن قل علمه بالتوحيد والسنة، فأضله الشيطان، كما أضل النصاري في أمور؛ لقلة علمهم بما جاء به المسيح ومن قبله من الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم‏.‏

وكذلك لم يطمع الشيطان أن يطير بأحدهم في الهواء، ولا أن يقطع به الأرض البعيدة في مدة قريبة، كما يقع مثل هذا لكثير من المتأخرين؛ لأن الأسفار التي كانوا يسافرونها كانت طاعات؛ كسفر الحج والعمرة والجهاد، وهذه يثابون على كل خطوة يخطونها فيه، وكلما بعدت المسافة كان الأجر أعظم؛ كالذي يخرج من بيته إلى المسجد، فخطواته إحداها /ترفع درجة والأخري تحط خطيئة‏.‏ فلم يمكن الشيطان أن يفوتهم ذلك الأجر بأن يحملهم في الهواء أو يؤزهم في الأرض أزا حتى يقطعوا المسافة البعيدة بسرعة‏.‏ وقد علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أسـري بـه الله عز وجـل مـن المسجـد الحـرام إلى المسجد الأقصي ليريـه مـن آياتـه الكبري‏.‏ وكان هذا من خصائصه‏.‏ فليس لمن بعده مثل هذا المعراج، ولكن الشيطان يخيل إليه معاريج شيطانية كما خيلها لجماعة من المتأخرين‏.‏

وأما قطع النهر الكبير بالسير على الماء فهذا قد يحتاج إليه المؤمنون أحيانا مثل ألا يمكنهم العبور إلى العدو وتكميل الجهاد إلا بذلك‏.‏ فلهذا كان الله يكرم من احتاج إلى ذلك من الصحابة والتابعين بمثل ذلك، كما أكرم به العلاء بن الحضرمى وأصحابه، وأبا مسلم الخولاني وأصحابه، وبسط هذا له موضع آخر غير هذا الكتاب‏.‏

لكن المقصود أن يعرف أن الصحابة خير القرون وأفضل الخلق بعد الأنبياء، فما ظهر فيمن بعدهم مما يظن أنها فضيلة للمتأخرين ولم تكن فيهم فإنها من الشيطان، وهي نقيصة لا فضيلة، سواء كانت من جنس العلوم، أو من جنس العبادات، أو من جنس الخوارق والآيات، أو من جنس السياسة والملك‏.‏ بل خير الناس بعدهم أتبعهم لهم‏.‏ قال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ‏:‏ من كان منكم مستنا /فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا‏.‏ قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم‏.‏ وبسط هذا له موضع آخر‏.‏

والمقصود هنا أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ تركوا البدع المتعلقة بالقبور كقبره المكرم وقبر غيره، لنهيه صلى الله عليه وسلم لهم عن ذلك، ولئلا يتشبهوا بأهل الكتاب الذين اتخذوا قبور الأنبياء أوثانا‏.‏ وإن كان بعضهم يأتي من خارج فيسلم عليه إذا قدم من سفر، كما كان ابن عمر يفعل‏.‏ بل كانوا في حياته يسلمون عليه ثم يخرجون من المسجد لا يأتون إليه عند كل صلاة‏.‏ وإذا جاء أحدهم يسلم عليه رد عليه النبي صلى الله عليه وسلم السلام‏.‏ وكذلك من يسلم عليه عند قبره رد عليه السلام، وكانوا يدخلون على عائشة، فكانوا يسلمون عليه كما كانوا يسلمون عليه في حياته، ويقول أحدهم‏:‏ السلام على النبي ورحمة الله وبركاته‏.‏ وقد جاء هذا عاما في جميع قبور المؤمنين، فما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله روحه عليه حتى يرد عليه السلام‏.‏ فإذا كان رد السلام موجودا في عموم المؤمنين فهو في أفضل الخلق أولي‏.‏ وإذا سلم المسلم عليه في صلاته، فإنه وإن لم يرد عليه لكن الله يسلم عليه عشرا‏.‏ كما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏من سلم على مرة سلم الله عليه/ عشرا‏)‏‏.‏ فالله يجزيه على هذا السلام أفضل مما يحصل بالرد، كما أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا‏.‏ وكان ابن عمر يسلم عليه ثم ينصرف‏.‏ لا يقف لا لدعاء له ولا لنفسه‏.‏ ولهذا كره مالك ما زاد على فعل ابن عمر من وقوف له أو لنفسه؛ لأن ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة، فكان بدعة محضة‏.‏ قال مالك‏:‏ لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها‏.‏ مع أن فعل ابن عمر إذا لم يفعل مثله سائر الصحابة إنما يصلح للتسويغ، كأمثال ذلك فيما فعله بعض الصحابة ـ رضوان الله عليهم‏.‏

وأما القول بأن هذا الفعل مستحب أو منهي عنه أو مباح، فلا يثبت إلا بدليل شرعي، فالوجوب والندب والإباحة والاستحباب والكراهة والتحريم لا يثبت شيء منها إلا بالأدلة الشرعية، والأدلة الشرعية مرجعها كلها إليه ـ صلوات الله وسلامه عليه‏.‏ فالقرآن هو الذي بلغه، والسنة هو الذي علمها‏.‏ والإجماع بقوله عرف أنه معصوم‏.‏ والقياس إنما يكون حجة إذا علمنا أن الفرع مثل الأصل، وأن علة الأصل في الفرع‏.‏ وقد علمنا أنه صلى الله عليه وسلم لا يتناقض، فلا يحكم في المتماثلين بحكمين متناقضين، ولا يحكم بالحكم لعلة تارة ويمنعه أخري مع وجود العلة إلا لاختصاص إحدي الصورتين بما يوجب التخصيص‏.‏ فشرعه هو ما شرعه هو صلى الله عليه وسلم، وسنته ما سنها هو، لا يضاف إليه قول غيره /وفعله ـ وإن كان من أفضل الناس ـ إذا وردت سنته، بل ولا يضاف إليه إلا بدليل يدل على الإضافة؛ ولهذا كان الصحابة كأبي بكر وعمر وابن مسعود يقولون باجتهادهم ويكونون مصيبين موافقين لسنته، لكن يقول أحدهم‏:‏ أقول في هذا برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه‏.‏ فإن كل ما خالف سنته فهو شرع منسوخ أو مبدل، لكن المجتهدون وإن قالوا بآرائهم وأخطؤوا فلهم أجر، وخطؤهم مغفور لهم‏.‏

 وكان الصحابة إذا أراد أحدهم أن يدعو لنفسه استقبل القبلة ودعا في مسجده، كما كانوا يفعلون في حياته‏.‏لا يقصدون الدعاء عند الحجرة ولا يدخل أحدهم إلى القبر‏.‏ والسلام عليه قد شرع للمسلمين في كل صلاة، وشرع للمسلمين إذا دخل أحدهم المسجد أي مسجد كان‏.‏

فالنوع الأول‏:‏ كل صلاة يقول المصلى‏:‏ السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ثم يقول‏:‏ السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فإذا قلتم ذلك أصابت كل عبد صالح لله في السماء والأرض‏)‏‏.‏ وقد شرع للمسلمين في كل صلاة أن يسلموا على النبي صلى الله عليه وسلم خصوصا وعلى عباد الله الصالحين من الملائكة والإنس والجن عموما‏.‏ وفي الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ كنا نقول خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة‏:‏ السلام على فلان وفلان‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله / هو السلام، فإذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل‏:‏ التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله‏)‏‏.‏ وقد روي عنه التشهد بألفاظ أخر، كما رواه مسلم من حديث ابن عباس، وكما كان ابن عمر يعلم الناس التشهد‏.‏ ورواه مسلم من حديث أبي موسي، لكن هو تشهد ابن مسعود‏.‏ ولكن لم يخرج البخاري إلا تشهد ابن مسعود، وكل ذلك جائز، فإن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فالتشهد أولي‏.‏

والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم ذكر أن المصلى إذا قال‏:‏ السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أصابت كل عبد صالح لله في السماء والأرض‏.‏ وهذا يتناول الملائكة وصالحي الإنس والجن، كما قال تعالى عنهم‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 11‏]‏‏.‏

والنوع الثاني‏:‏ السلام عليه عند دخول المسجد، كما في المسند والسنن عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ ورضي الله عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا دخل أحدكم المسجد فليقل‏:‏ بسم الله، والسلام على رسول الله‏.‏ اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك‏.‏ وإذا خرج قال‏:‏ بسم الله، والسلام على رسول الله‏.‏/ اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك‏)‏‏.‏ وقد روي مسلم في صحيحه الدعاء عند دخول المسجد بأن يفتح له أبواب رحمته، وعند خروجه يسأل الله من فضله‏.‏ وهذا الدعاء مؤكد في دخول مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا ذكره العلماء فيما صنفوه من المناسك لمن أتي إلى مسجده صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك‏.‏ فكان السلام عليه مشروعا عند دخول المسجد والخروج منه، وفي نفس كل صلاة‏.‏ وهذا أفضل وأنفع من السلام عليه عند قبره وأدوم‏.‏ وهذا مصلحة محضة لا مفسدة فيها تخشي، فبها يرضي الله ويوصل نفع ذلك إلى رسوله وإلى المؤمنين‏.‏ وهذا مشروع في كل صلاة وعند دخول المسجد والخروج منه، بخلاف السلام عند القبر‏.‏

مع أن قبره من حين دفن لم يمكن أحد من الدخول إليه، لا لزيارة ولا لصلاة ولا لدعاء ولا غير ذلك‏.‏ ولكن كانت عائشة فيه لأنه بيتها‏.‏ وكانت ناحية عن القبور؛ لأن القبور في مقدم الحجرة، وكانت هي في مؤخر الحجرة‏.‏ ولم يكن الصحابة يدخلون إلى هناك‏.‏ وكانت الحجرة على عهد الصحابة خارجة عن المسجد متصلة به، وإنما أدخلت فيه في خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان بعد موت العبادلة، ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وابن عمرو، بل بعد موت جميع الصحابة الذين كانوا بالمدينة، فإن آخر من مات بها جابر ابن عبد الله في بضع / وسبعين سنة‏.‏ ووسع المسجد في بضع وثمانين سنة‏.‏ ولم يكن الصحابة يدخلون إلى عند القبر، ولا يقفون عنده خارجا، مع أنهم يدخلون إلى مسجده ليلا ونهارا‏.‏ وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صلاة في مسجدي هذا خير مـن ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام‏)‏‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد‏:‏ المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى‏)‏‏.‏ وكانوا يقدمون من الأسفار للاجتماع بالخلفاء الراشدين وغير ذلك فيصلون في مسجده، ويسلمون عليه في الصلاة، وعند دخول المسجد والخروج منه‏.‏ ولا يأتون القبر، إذ كان هذا عندهم مما لم يأمرهم به، ولم يسنه لهم‏.‏ وإنما أمرهم وسن لهم الصلاة والسلام عليه في الصلاة، وعند دخولهم المساجد، وغير ذلك‏.‏

ولكن ابن عمر كان يأتيه فيسلم عليه وعلى صاحبيه عند قدومه من السفر‏.‏ وقد يكون فعله غير ابن عمر أيضا‏.‏ فلهذا رأي من رأي من العلماء هذا جائزا اقتداء بالصحابة ـ رضوان الله عليهم‏.‏ وابن عمر كان يسلم ثم ينصرف، ولا يقف، يقول‏:‏ السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت‏.‏ ثم ينصرف‏.‏ ولم يكن جمهور الصحابة يفعلون كما فعل ابن عمر، بل كان الخلفاء وغيرهم يسافرون للحج وغيره ويرجعون ولا يفعلون ذلك، إذ لم يكن هذا /عندهم سنة سنها لهم‏.‏ وكذلك أزواجه كن على عهد الخلفاء وبعدهم يسافرون إلى الحج، ثم ترجع كل واحدة إلى بيتها كما وصاهن بذلك‏.‏ وكانت أمداد اليمن الذين قال الله تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏، على عهد أبي بكر الصديق وعمر يأتون أفواجًا من اليمن للجهاد في سبيل الله، ويصلون خلف أبي بكر وعمر في مسجده، ولا يدخل أحد منهم إلى داخل الحجرة، ولا يقف في المسجد خارجًا، لا لدعاء ولا لصلاة ولا سلام ولا غير ذلك‏.‏ وكانوا عالمين بسنته كما علمتهم الصحابة والتابعون، وأن حقوقه لازمة لحقوق الله عز وجل، وأن جميع ما أمر الله به وأحبه من حقوقه وحقوق رسوله فإن صاحبها يؤمر بها في جميع المواضع والبقاع‏.‏ فليست الصلاة والسلام عند قبره المكرم بأوكد من ذلك في غير ذلك المكان‏.‏ بل صاحبها مأمور بها حيث كان‏:‏ إما مطلقًا وإما عند الأسباب المؤكدة لها، كالصلاة والدعاء والأذان‏.‏ ولم يكن شيء من حقوقه ولا شيء من العبادات هو عند قبره أفضل منه في غير تلك البقعة، بل نفس مسجده له فضيلة لكونه مسجده‏.‏

ومن اعتقد أنه قبل القبر لم تكن له فضيلة إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى فيه والمهاجرون والأنصار، وإنما حدثت له الفضيلة في خلافة الوليد بن عبد الملك لما أدخل الحجرة في مسجده، فهذا لا يقوله /إلا جاهل مفرط في الجهل، أو كافر، فهو مكذب لما جاء به مستحق للقتل‏.‏ وكان الصحابة يدعون في مسجده كما كانوا يدعون في حياته‏.‏ لم تحدث لهم شريعة غير الشريعة التي علمهم إياها في حياته‏.‏ وهو لم يأمرهم إذا كان لأحدهم حاجة أن يذهب إلى قبر نبي أو صالح فيصلى عنده ويدعوه، أو يدعو بلا صلاة، أو يسأل حوائجه، أو يسأله أن يسأل ربه‏.‏ فقد علم الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يأمرهم بشيء من ذلك، ولا أمرهم أن يخصوا قبره أو حجرته لا بصلاة ولا دعاء، لا له ولا لأنفسهم، بل قد نهاهم أن يتخذوا بيته عيدًا‏.‏ فلم يقل لهم كما يقول بعض الشيوخ الجهال لأصحابه‏:‏ إذا كان لكم حاجة فتعالوا إلى قبري، بل نهاهم عما هو أبلغ من ذلك أن يتخذوا قبره أو قبر غيره مسجدًا يصلون فيه لله عز وجل، ليسد ذريعة الشرك‏.‏ فصلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا، وجزاه أفضل ما جزي نبيا عن أمته، قد بلغ الرسالة، وأدي الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه‏.‏ وكان إنعام الله به أفضل نعمة أنعم بها على العباد‏.‏

وقد دلهم صلى الله عليه وسلم على أفضل العبادات وأفضل البقاع، كما في الصحيحين عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ قلت‏:‏ / يا رسول الله، أي العمل أفضل‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الصلاة على مواقيتها‏)‏‏.‏ قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏بر الوالدين‏)‏‏.‏ قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الجهاد في سبيل الله‏)‏‏.‏ قال‏:‏ سألته عنهن ولو استزدته لزادني‏.‏ وفي المسند وسنن ابن ماجه عن ثوبان، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن‏)‏‏.‏ والصلاة قد شرع للأمة أن تتخذ لها مساجد، وهي أحب البقاع إلى الله كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره أنه قال‏:‏ ‏(‏أحب البقاع إلى الله المساجد، وأبغض البقاع إلى الله الأسواق‏)‏‏.‏

ومع هذا فقد لعن من يتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد وهو في مرض موته، نصيحة للأمة، وحرصًا منه على هداها‏.‏ كما نعته الله بقوله‏:‏ ‏{‏لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عليه مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عليكم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 128‏]‏‏.‏ ففي الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه‏:‏ ‏(‏لعن الله اليهود والنصاري، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏‏.‏ قالت عائشة‏:‏ ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا‏.‏ وفي رواية‏:‏ ولكن خشي أن يتخذ مسجدًا‏.‏ وفي رواية للبخاري‏:‏ ‏(‏غير أني أخشي أن يتخذ مسجدًا‏)‏‏.‏ وعن عائشة وابن عباس قالا‏:‏ لما نزل برسول الله / صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك‏:‏ ‏(‏لعنة الله على اليهود والنصاري، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏ ـ يحذر ما صنعوا‏.‏ ومن حكمة الله أن عائشة أم المؤمنين ـ صاحبة الحجرة التي دفن فيها صلى الله عليه وسلم ـ تروي هذه الأحاديث، وقد سمعتها منه، وإن كان غيرها من الصحابة ـ أيضًا ـ يرويها؛ كابن عباس، وأبي هريرة، وجندب بن عبد الله، وابن مسعود ـ رضي الله تعالى عنهم‏.‏

وفي الصحيحين عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قاتل الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏‏.‏ وفي الصحيحين عن عائشة‏:‏ أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة‏)‏‏.‏

وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول‏:‏ ‏(‏إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً‏.‏ ألا وإن من /كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك‏)‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها‏)‏‏.‏ وفي المسند وصحيح أبي حاتم‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد‏)‏‏.‏ وقد تقدم نهيه أن يتخذوا قبره عيدًا‏.‏

فلما علم الصحابة أنه قد نهاهم عن أن يتخذوه مصلى للفرائض التي يتقرب بها إلى الله عز وجل، لئلا يتشبهوا بالمشركين الذين يدعونها ويصلون لها وينذرون لها، كان نهيهم عن دعائها أعظم وأعظم‏.‏ كما أنه لما نهاهم عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها لئلا يتشبهوا بمن يسجد للشمس، كان نهيهم عن السجود للشمس أولي وأحري‏.‏ فكان الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ يقصدون الصلاة والدعاء والذكر في المساجد التي بنيت لله دون قبور الأنبياء والصالحين التي نهوا أن يتخذوها مساجد، وإنما هي بيوت المخلوقين‏.‏ وكانوا يفعلون بعد موته ما كانوا يفعلون في حياته صلى الله عليه وآله وسلم تسليما‏.‏

ومما يدل على ما ذكره مالك وغيره من علماء المسلمين من الكراهة لأهل المدينة قصدهم القبر إذا دخلوا أو خرجوا منه ونحو ذلك / ـ وإن كـان قصدهم مجرد السلام عليه والصلاة ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء راكبًا وماشيا كل سبت، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن عمر، قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي قباء كل سبت راكبًا وماشيا‏.‏ وكان ابن عمر يفعله‏.‏ زاد نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ فيصلى فيه ركعتين‏.‏ وهذا الحديث الصحيح يدل على أنه كان يصلى في مسجده يوم الجمعة، ويذهب إلى مسجد قباء فيصلى فيه يوم السبت، وكلاهما أسس على التقوي، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ على التَّقْوَي مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 108‏]‏، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه سأل أهل قباء عن هذا الطهور الذي أثني الله عليهم، فذكروا أنهم يستنجون بالماء‏.‏ وفي سنن أبي داود وغيره قال‏:‏ نزلت هذه الآية في مسجد أهل قباء ‏{‏فٌيهٌ رٌجّالِ يحٌبٍَونّ أّن يتّطّهَّرٍوا‏}‏‏.‏ قال‏:‏ كانوا يستنجون بالماء، فنزلت فيهم هذه الآية‏.‏ وقد ثبت في الصحيح عن سعد أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوي وهو في بيت بعض نسائه، فأخذ كفًا من حصي، فضرب به الأرض ثم قال‏:‏ ‏(‏هو مسجدكم هذا‏)‏، لمسجد المدينة‏.‏ فتبين أن كلا المسجدين أسس على التقوي، لكن مسجد المدينة أكمل في هذا النعت، فهو أحق بهذا الاسم‏.‏ ومسجد قباء كان سبب نزول الآية؛ لأنه / مجاور لمسجد الضرار الذي نهي عن القيام فيه‏.‏

والمقصود أن إتيان قباء كل أسبوع للصلاة فيه كان ابن عمر يفعله اتباعًا للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن ابن عمر ولا غيره إذا كانوا مقيمين بالمدينة يأتون قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا في الأسبوع ولا في غير الأسبوع‏.‏ وإنما كان ابن عمر يأتي القبر إذا قدم من سفر‏.‏ وكثير من الصحابة أو أكثرهم كانوا يقدمون من الأسفار ولا يأتون القبر لا لسلام ولا لدعاء ولا غير ذلك‏.‏ فلم يكونوا يقفون عنده خارج الحجرة في المسجد، كما كان ابن عمر يفعل‏.‏ ولم يكن أحد منهم يدخل الحجرة لذلك، بل ولا يدخلونها إلا لأجل عائشة ـ رضي الله عنها ـ لما كانت مقيمة فيها‏.‏ وحينئذ فكان من يدخل إليها يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، كما كانوا يسلمون عليه إذا حضروا عنده‏.‏ وأما السلام الذي لا يسمعه فذلك سلام الله عليهم به عشرًا، كالسلام عليه في الصلاة، وعند دخول المسجد، والخروج منه‏.‏ وهذا السلام مأمور به في كل مكان وزمان‏.‏ وهو أفضل من السلام المختص بقبره‏.‏ فإن هذا المختص بقبره من جنس تحية سائر المؤمنين أحياء وأمواتًا‏.‏

وأما السلام المطلق العام فالأمر به من خصائصه كما أن الأمر بالصلاة من خصائصه‏.‏ وإن كان في الصلاة والسلام على غيره عمومًا وفي الصلاة على غيره خصوصًا نزاع‏.‏ وقد عدي بعضهم ذلك إلى السلام /فجعله مختصًا به، كما اختص بالصلاة‏.‏ وحكي هذا عن أبي محمد الجويني، لكن جمهور العلماء على أن السلام لا يختص به‏.‏ وأما الصلاة ففيها نزاع مشهور‏.‏ وذلك أن الله تعالى أمر في كتابه بالصلاة والسلام عليه مخصوصًا بذلك، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ على النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عليه وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 56‏]‏، فهنا أخبر وأمر‏.‏ وأما في حق عموم المؤمنين فأخبر ولم يأمر، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي يُصلى عليكمْ وَمَلَائِكَتُهُ ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 43‏]‏؛ ولهذا إذا ذكر الخطباء ذلك قالوا‏:‏ إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثني بملائكته، وأيه بالمؤمنين من بريته، أي قال ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏‏.‏ فإن صلاته تعالى على المؤمنين بدأ فيها بنفسه، وثني بملائكته، لكن لم يؤيه فيها بالمؤمنين من بريته‏.‏ وقد جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏إن الله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير‏)‏‏.‏

 وقد اتفق المسلمون على أنه تشرع الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في الصلاة قبل الدعاء، وفي غير الصلاة‏.‏ وإنما تنازعوا في وجوب الصلاة عليه في الصلاة المكتوبة‏.‏ وفي الخطب، فأوجب ذلك الشافعي ولم يوجبه أبو حنيفة ومالك‏.‏ وعن الإمام أحمد روايتان‏.‏ وإذا قيل بوجوبها فهل هي ركن أو تسقط بالسهو‏؟‏ على روايتين‏.‏ وأظهر الأقوال أن الصلاة واجبة مع الدعاء فلا ندعو حتى نبدأ به صلى الله عليه وسلم، والسلام عليه مأمور به في الصلاة، وهو في التشهد الذي هو /ركن في الصلاة عند الشافعي وأحمد في المشهور عنه، فتبطل الصلاة بتركه عمدًا أو سهوًا‏.‏ والتشهد الأخير عند مالك وأبي حنيفة، وعند مالك وأحمد في المشهور عنه‏:‏ إذا ترك التشهد الأول عمدًا بطلت صلاته، وإن تركه سهوًا فعليه سجود السهو‏.‏ وهذا يسميه الإمام أحمد واجبًا، ويسميه أصحاب مالك سنة واجبة‏.‏ ويقولون‏:‏ سنة واجبة‏.‏ وليس في ذلك نزاع معنوي مع القول بأن من تعمد تركه يعيد ومن تركه سهوًا فعليه سجود السهو‏.‏

ومالك وأحمد عندهما الأفعال في الصلاة أنواع كأفعال الحج‏.‏ وأبو حنيفة يجعلها ثلاثة أنواع، لكن عنده أن النوع الواجب يكون مسيئًا بتركه ولا إعادة عليه سواء تركه عمدًا أو سهوًا‏.‏ وأما الشافعي فعنده الواجب فيها هو الركن، بخلاف الحج فإنه باتفاقهم فيه واجب يجبر بالدم غير الركن وغير المستحب‏.‏

ولا نزاع أنه هو صلى الله عليه وسلم يصلى على غيره، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَصَلِّ عليهمْ ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏، وكما ثبت في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏اللهم صل على آل أبي أوفي‏)‏‏.‏ وكما روي أنه قال لامرأة‏:‏ ‏(‏صلى الله عليك وعلى زوجك‏)‏‏.‏ وكانت قد طلبت منه أن يصلى عليها وعلى زوجها‏.‏

وأيضًا، لا نزاع أنه يصلى على آله تبعًا كما علم أمته أن يقولوا‏:‏ ‏(‏اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم إنك حميد /مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد‏)‏‏.‏

 وأما صلاة غيره على غيره منفردًا مثال أن يقال‏:‏ صلى الله على أبي بكر أو عمر أو عثمان أو على‏.‏ ففيها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن ذلك جائز، وهو منصوص أحمد في غير موضع، واستدل على ذلك بأن عليا قال لعمر‏:‏ صلى الله عليك‏.‏ وعليه جمهور أصحابه كالقاضي أبي يعلي وابن عقيل والشيخ عبد القادر، ولم يذكروا في ذلك نزاعًا‏.‏

والثاني‏:‏ المنع من ذلك، كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب مالك والشافعي ونقل ذلك عنهما، وهو الذي ذكره جدنا أبو البركات في كتابه الكبير، لم يذكر غيره، واحتج بما رواه جماعة عن ابن عباس قال‏:‏ لا أعلم الصلاة تنبغي من أحد على أحد إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال من منع‏:‏ أما صلاته على غيره فإن الصلاة له فله أن يعطيها لغيره، وأما الصلاة على غيره تبعًا فقد يجوز تبعًا ما لا يجوز قصدًا‏.‏ ومن جوز ذلك يحتج بالخليفتين الراشدين عمر وعلى، وبأنه ليس في الكتاب والسنة نهي عن ذلك، لكن لا يجب ذلك في حق أحد كما يجب في حق النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فتخصيصه كان بالأمر والإيجاب لا بالجواز والاستحباب‏.‏ قالوا‏:‏وقد ثبت أن / الملائكة تصلي على المؤمنين كما في الصحيح‏:‏ ‏(‏إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه‏)‏‏.‏ فإذا كان الله وملائكته يصلون على المؤمن، فلماذا لا يجوز أن يصلى عليه المؤمنون‏؟‏

وأما قول ابن عباس فهذا ذكره لما صار أهل البدع يخصون بالصلاة عليا أو غيره، ولا يصلون على غيرهم‏.‏ فهذا بدعة بالاتفاق‏.‏ وهم لا يصلون على كل أحد من بني هاشم من العباسيين ولا على كل أحد من ولد الحسن والحسين ولا على أزواجه، مع أنه قد ثبت في الصحيح‏:‏ ‏(‏اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته‏)‏‏.‏ فحينئذ لا حجة لمن خص بالصلاة بعض أهل البيت دون سائر أهل البيت، ودون سائر المؤمنين‏.‏

ولما كان الله تعالى أمر بالصلاة والسلام عليه ثم قال من قال‏:‏ إن الصلاة على غيره ممنوع منها، طرد ذلك طائفة منهم أبو محمد الجويني فقالوا‏:‏ لا يسلم على غيره‏.‏ وهذا لم يعرف عن أحد من المتقدمين، وأكثر المتأخرين أنكروه‏.‏ فإن السلام على الغير مشروع، سلام التحية، يسلم عليه إذا لقيه، وهو إما واجب أو مستحب مؤكد، فإن في ذلك قولين للعلماء، وهما قولان في مذهب أحمد، والرد واجب بالإجماع إما على الأعيان، وإما على الكفاية‏.‏ والمصلى إذا خرج من الصلاة يقول‏:‏ السلام عليكم، السلام عليكم‏.‏ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم /يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يسلموا عليهم فيقولوا‏:‏ ‏(‏السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين‏)‏‏.‏ فالذين جعلوا السلام من خصائصه لا يمنعون من السلام على الحاضر، لكن يقولون‏:‏ لا يسلم على الغائب‏.‏ فجعلوا السلام عليه مع الغيبة من خصائصه، وهذا حق‏.‏ لكن الأمر بذلك وإيجابه هو من خصائصه كما في التشهد‏.‏ فليس فيه سلام على معين إلا عليه‏.‏ وكذلك عند دخول المسجد والخروج منه، وهذا يؤيد أن السلام كالصلاة كلاهما واجب له في الصلاة وغيرها‏.‏ وغيره فليس واجبًا إلا سلام التحية عند اللقاء، فإنه مؤكد بالاتفاق‏.‏

وهل يجب أو يستحب‏؟‏ على قولين معروفين في مذهب أحمد وغيره‏.‏ والذي تدل عليه النصوص أنه واجب‏.‏ وقد روي مسلم في صحيحه عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏خمس تجب للمسلم على المسلم‏:‏ يسلم عليه إذا لقيه، ويعوده إذا مرض، ويشيعه إذا مات ويجيبه إذا دعاه‏)‏، وروي‏:‏ ‏(‏ويشمته إذا عطس‏)‏‏.‏ وقد أوجب أكثر الفقهاء إجابة الدعوة‏.‏ والصلاة على الميت فرض على الكفاية بإجماعهم، والسلام عند اللقاء أوكد من إجابة الدعوة‏.‏ وكذلك عيادة المريض، والشر الذي يحصل إذا لم يسلم عليه عند اللقاء ولم يعده إذا مرض أعظم مما يحصل إذا لم يجب دعوته‏.‏ والسلام أسهل من إجابة الدعوة ومن العيادة‏.‏ وهذه المسائل لبسطها مواضع أخر‏.‏

/ والمقصود هنا أن سلام التحية عند اللقاء في المحيا، وفي الممات إذا زار قبر مسلم مشروع في حق كل مسلم لكل من لقيه حيا أو زار قبره أن يسلم عليه‏.‏ فالصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ كانوا يعرفون أن هذا السلام عليه عند قبره الذي قال فيه‏:‏ ‏(‏ما من أحد يسلم على إلا رد الله على روحي، حتى أرد عليه السلام‏)‏، ليس من خصائصه، ولا فيه فضيلة له على غيره‏.‏ بل هو مشروع في حق كل مسلم حي وميت‏.‏ وكل مؤمن يرد السلام على من سلم عليه‏.‏ وهذا ليس مقصودًا بنفسه، بل إذا لقيه سلم عليه‏.‏ وهكذا إذا زار القبر يسلم على الميت‏.‏ لا أنه يتكلف قطع المسافة واللقاء لمجرد ذلك‏.‏ والسلام عليه في الصلاة، وعند دخول المسجد والخروج منه، فهو من خصائصه، هو من السلام الذي أمر الله به في القرآن أن يسلم عليه، ومن سلم يسلم الله عليه عشرًا، كما يصلى عليه إذا صلى عليه عشرًا‏.‏ فهو المشروع المأمور به الأفضل الأنفع الأكمل الذي لا مفسدة فيه‏.‏ وذاك جهد لا يختص به ولا يؤمر بقطع المسافة لمجرده، بل قصد نية الصلاة والسلام والدعاء هو اتخاذ له عيدًا، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تتخذوا بيتي عيدًا‏)‏‏.‏

فلهذا كان العمل الشائع في الصحابة ـ الخلفاء الراشدين والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ـ أنهم يدخلون مسجده ويصلون عليه /في الصلاة، ويسلمون عليه كما أمرهم الله ورسوله، ويدعون لأنفسهم في الصلاة مما اختاروا من الدعاء المشروع كما في الصحيح من حديث ابن مسعود لما علمه التشهد قال‏:‏ ‏(‏ثم ليتخير بعد ذلك من الدعاء أعجبه إليه‏)‏‏.‏ ولم يكونوا يذهبون إلى القبر لا من داخل الحجرة ولا من خارجها، لا لدعاء ولا صلاة ولا سلام ولا غير ذلك من حقوقه المأمور بها في كل مكان فضلاً عن أن يقصدوها لحوائجهم، كما يفعله أهل الشرك والبدع، فإن هذا لم يكن يعرف في القرون الثلاثة، لا عند قبره ولا قبر غيره، لا في زمن الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم‏.‏

فهذه الأمور إذا تصورها ذو الإيمان والعلم عرف دين الإسلام في هذه الأمور‏.‏ وفرق بين من يعرف التوحيد والسنة والإيمان، ومن يجهل ذلك‏.‏ وقد تبين أن الخلفاء الراشدين وجمهور الصحابة كانوا يدخلون المسجد ويصلون فيه على النبي صلى الله عليه وسلم ولا يسلمون عليه عند الخروج من المدينة وعند القدوم من السفر، بل يدخلون المسجد فيصلون فيه ويسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم ولا يأتون القبر، ومقصود بعضهم التحية‏.‏

وأيضًا، فقد استحب لكل من دخل المسجد أن يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول‏:‏ بسم الله، والسلام على رسول الله‏.‏ اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك‏.‏ وكذلك إذا خرج يقول‏:‏/ بسم الله، والسلام على رسول الله‏.‏ اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك‏.‏ فهذا السلام عند دخول المسجد كلما يدخل يغني عن السلام عليه عند القبر‏.‏ وهو من خصائصه، ولا مفسدة فيه وهو يفعل ذلك في الصلاة، فيصلون ويسلمون عليه في الصلاة، ويصلون عليه إذا سمعوا الأذان ويطلبون له الوسيلة لما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا على، فإنه من صلى على مرة صلى الله عليه عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة‏)‏‏.‏

وقد علموا أن الذي يستحب عند قبره المكرم من السلام عليه هو سلام التحية عند اللقاء، كما يستحب ذلك عند قبر كل مسلم وعند لقائه، فيشاركه فيه غيره كما قال‏:‏ ‏(‏ما من رجل يسلم على إلا رد الله على روحي، حتى أرد عليه السلام‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏ما من رجل يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه فيسلم عليه، إلا عرفه ورد عليه السلام‏)‏‏.‏ وكان إذا أتي المقابر قال‏:‏ ‏(‏السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أنتم لنا فرط ونحن لكم تبع، أسأل الله العافية لنا ولكم‏)‏، وكان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا‏:‏/‏(‏السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين‏)‏‏.‏ والسلام عليه في الصلاة أفضل من السلام عليه عند القبر، وهو من خصائصه، وهو مأمور به‏.‏ والله يسلم على صاحبه كما يصلى على من صلى عليه، فإنه من صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها عشرًا، ومن سلم عليه واحدة سلم الله عليه عشرًا‏.‏ وقد حصل مقصودهم ومقصوده من السلام عليه والصلاة عليه في مسجده وغير مسجده، فلم يبق في إتيان القبر فائدة لهم ولا له، بخلاف إتيان مسجد قباء فإنهم كانوا يأتونه كل سبت فيصلون فيه اتباعًا له صلى الله عليه وسلم‏.‏ فإن الصلاة فيه كعمرة‏.‏ ويجمعون بين هذا وبين الصلاة في مسجده يوم الجمعة، إذ كان أحد هذين لا يغني عن الآخر، بل يحصل بهذا أجر زائد‏.‏ وكذلك إذا خرج الرجل إلى البقيع وأهل أحد كما كان يخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لهم كان حسنًا؛ لأن هذا مصلحة لا مفسدة فيها وهم لا يدعون لهم في كل صلاة حتى يقال‏:‏هذا يغني عن هذا‏.‏

ومع هذا فقد نقل عن مالك كراهة اتخاذ ذلك سنة‏.‏ ولم يأخذ في هذا بفعل ابن عمر، كما لم يأخذ بفعله في التمسح بمقعده على المنبر، ولا باستحباب قصد الأماكن التي صلى فيها لكون الصلاة أدركته فيها، فكان ابن عمر يستحب قصدها للصـلاة فيها، وكـان جمهور الصحابة لا يسستحبون ذلك، بل يستحبون ما كان صلى الله عليه وسلم يسـتحبه / وهـو أن يصلى حيث أدركته الصـلاة، وكـان أبوه عمـر بن الخطاب ينـهي مـن يقصدها للصلاة فيها، ويقول‏:‏ إنما هلك من كان قبلكم بهذا، فإنهم اتخذوا آثار أنبيائهم مساجـد، مـن أدركتـه الصلاة فـيه فليصل وإلا فليذهب‏.‏ فأمرهم عمر بن الخطاب بما سنه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان عمـر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ مـن الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباع سنتهم، وله خصوص الأمر بالاقتداء به وبأبي بكر حيث قال‏:‏ ‏(‏اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر‏)‏‏.‏ فالأمر بالاقتداء أرفع من الأمر بالسنة، كما قد بسط في مواضع‏.‏

وكذلك نقل عن مالك كراهة المجيء إلى بيت المقدس؛ خشية أن يتخذ السفر إليه سنة، فإنه كره ذلك لما جعل لهذا وقت معين كوقت الحج الذي يذهب إليه جماعة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل هذا، لا في قباء ولا في قبور الشهداء وأهل البقيع ولا غيرهم، كما فعل مثل ذلك في الحج وفي الجمع والأعياد‏.‏ فيجب الفرق بين هذا وبين هذا‏.‏ مع أنه صلى التطوع في جماعة مرات في قيام الليل ووقت الضحي وغيره، ولكن لم يجعل الاجتماع مثل تطوع في وقت معين سنة كالصلوات الخمس وكصلاة الكسوف والعيدين والجمعة‏.‏ وأما إتيان القبر للسلام عليه فقد استغنوا عنه بالسلام عليه في الصلاة، وعند دخول المسجد والخروج منه، وفي إتيانه بعد الصلاة مرة بعد مرة ذريعة إلى أن يتخذ عيدًا ووثنًا، /وقد نهو عن ذلك‏.‏

وهو صلى الله عليه وسلم مدفون في حجرة عائشة، وكانت حجرة عائشة وسائر حجر أزواجه من جهة شرقي المسجد وقبلته، لم تكن داخلة في مسجده، بل كان يخرج من الحجرة إلى المسجد، ولكن في خلافة الوليد وسع المسجد، وكان يحب عمارة المساجد، وعمر المسجد الحرام ومسجد دمشق وغيرهما، فأمر نائبه عمر بن عبد العزيز أن يشتري الحجر من أصحابها الذين ورثوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ويزيدها في المسجد‏.‏ فمن حينئذ دخلت الحجر في المسجد، وذلك بعد موت الصحابة‏.‏ بعد موت ابن عمر، وابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وبعد موت عائشة، بل بعد موت عامة الصحابة، ولم يكن بقي في المدينة منهم أحد‏.‏ وقد روي أن سعيد بن المسيب كره ذلك‏.‏ وقد كره كثير من الصحابة والتابعبن ما فعله عثمان ـ رضي الله عنه ـ من بناء المسجد بالحجارة والقصة والساج، وهؤلاء لما فعله الوليد أكره‏.‏ وأما عمر? ـ رضي الله عنه ـ فإنه وسعه، لكن بناه على ما كان من بنائه من اللبن وعمده جذوع النخل وسقفه الجريد‏.‏ ولم ينقل أن أحدًا كره ما فعل عمر، وإنما وقع النزاع فيما فعله عثمان والوليد‏.‏

وكان من أراد السلام عليه على عهد الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ يأتيه صلى الله عليه وسلم من غربي الحجرة فيسلم عليه، إما مستقبل الحجرة، /وإما مستقبل القبلة‏.‏ والآن يمكنه أن يأتي من جهة القبلة‏.‏ فلهذا كان أكثر العلماء يستحبون أن يستقبل الحجرة ويسلم عليه، ومنهم من يقول‏:‏ بل يستقبل القبلة ويسلم عليه كقول أبي حنيفة‏.‏

فإن الوليد بن عبد الملك تولي بعد موت أبيه عبد الملك سنة بضع وثمانين من الهجرة، وكان قد مات هؤلاء الصحابة كلهم، وتوفي عامة الصحابة في جميع الأمصار‏.‏ ولم يكن بقي بالأمصار إلا قليل جدًا؛ مثل أنس بن مالك بالبصرة، فإنه توفي في خلافة الوليد سنة بضع وتسعين، وجابر بن عبد الله مات سنة ثمان وسبعين بالمدينة، وهو آخر من مات بها‏.‏ والوليد أدخل الحجرة بعد ذلك بمدة طويلة نحو عشر سنين‏.‏ وبناء المسجد كان بعد موت جابر فلم يكن قد بقي بالمدينة أحد‏.‏ وأما عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ فزاد في المسجد والصحابة كثيرون، ولم يدخل فيه شيئًا من الحجرة بل ترك الحجرة النبوية على ما كانت عليه خارجة عن المسجد متصلة به من شرقيه، كما كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، وكانت عائشة ـ رضي الله عنها ـ فيها‏.‏ ولم تزل عائشة فيها إلى أواخر خلافة معاوية، وتوفيت بعد موت الحسن بن على‏.‏ وكان الحسن قد استأذنها في أن يدفن في الحجرة فأذنت له، لكن كره ذلك ناس آخرون، ورأوا أن عثمان ـ رضي الله عنه ـ لما لم يدفن فيها فلا يدفن غيره‏.‏ وكادت تقوم فتنة‏.‏ ولما احتضرت عائشة ـ رضي الله عنها ـ أوصت أن تدفـن مع /صـواحباتها بالبقيـع، ولا تدفـن هناك‏.‏ فعلت هـذا تواضعًا أن تزكي بـه صلى الله عليه وسلم‏.‏

فلهذا لم يتكلم فيما فعله الوليد ـ هل هو جائز أو مكروه ـ إلا التابعون؛ كسعيد بن المسيب وأمثاله‏.‏ وكان سعيد إذ ذاك من أجل التابعين، قيل لأحمد بن حنبل‏:‏ أي التابعين أفضل‏؟‏ قال‏:‏ سعيد بن المسيب‏.‏ فقيل له‏:‏ فعلقمة والأسود‏؟‏ فقال‏:‏ سعيد بن المسيب‏.‏ وعلقمة والأسود هذان كان قد ماتا قبل ذلك بمدة‏.‏ ومن ذلك الوقت دخلت في المسجد‏.‏ وكان المسجد قبل دخول الحجرة فيه فاضلا، وكانت فضيلة المسجد بأن النبي صلى الله عليه وسلم بناه لنفسه وللمؤمنين، يصلى فيه هو والمؤمنون إلى يوم القيامة، ففضل ببنائه له‏.‏ قلت‏:‏ قال مالك‏:‏ بلغني أن جبريل هو الذي أقام قبلته للنبي صلى الله عليه وسلم، وبأنه كان هو الذي يقصد فيه الجمعة والجماعة إلى أن مات، وما صلى جمعة بغيره قط لا في سفره ولا في مقامه‏.‏ وأما الجماعة فكان يصليها حيث أدركته‏.‏

ونحن مأمورون باتباعه صلى الله عليه وسلم، وذلك بأن نصدقه في كل ما أخبر به، ونطيعه في كل ما أوجبه وأمر به، لا يتم الإيمان به إلا بهذا وهذا‏.‏ ومن ذلك أن نقتدي به في أفعاله التي يشرع لنا أن نقتدي به، فما فعله على وجه الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة نفعله على وجه الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة، وهو مذهب جماهير العلماء،/ إلا ما ثبت اختصاصه به‏.‏ فإذا قصد عبادة في مكان شرع لنا أن نقصد تلك العبادة في ذلك المكان‏.‏ فلما قصد السفر إلى مكة وقصد العبادة بالمسجد الحرام والصلاة فيه، والطواف به، وبين الصفا والمروة، والصعود على الصفا والمروة، والوقوف بعرفة وبالمشعر الحرام، ورمى الجمار، والوقوف للدعاء عند الجمرتين الأوليين دون الثالثة التي هي جمرة العقبة، كان ذلك كله مشروعًا لنا، إما واجبًا وإما مستحبًا‏.‏ ولم يذهب بمكة إلى غير المسجد الحرام، ولا سافر إلى الغار الذي مكث فيه لما سافر سفر الهجرة، ولا صعد إلى غار حراء الذي كان يتحنث فيه قبل أن يأتيه الوحي، وكان ذلك عبادة لأهل مكة، قيل‏:‏ إنه سنها لهم عبد المطلب، وصلى عقب الطواف ركعتين، ولم يصل عقب الطواف بالصفا والمروة شيئًا‏.‏ وحين دخل المسجد الحرام طاف بالبيت، وكان الطواف تحية المسجد، لم يصل قبله تحية، كما تصلى في سائر المساجد، كما أنه افتتح برمى جمرة العقبة حين أتي مني، وتلك هي العبادة، وبعدها نحر هديه، ثم حلق رأسه، ثم طاف بالبيت‏.‏

ولهذا صارت السنة أن أهل مني يرمون ثم يذبحون، والرمى لهم بمنزلة صلاة العيد لغيرهم، وليس بمني صلاة عيد ولا جمعة، لا بها ولا بعرفة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل بهما صلاة عيد، ولا صلى يوم عرفة جمعة، ولا كان في أسفاره يصلى جمعة ولا عيدًا‏.‏ ولهذا /كان عامة العلماء على أن الجمعة لا تصلى في السفر، وليس في ذلك إلا نزاع شاذ‏.‏ وجمهور العلماء على أن العيد ـ أيضًا ـ لا يكون إلا حيث تكون الجمعة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عيدًا في السفر، ولا كان يصلى في المدينة على عهده إلا عيدًا واحدًا‏.‏ ولم يكن أحد يصلى العيد منفردًا‏.‏ وهذا قول جمهور العلماء، وفيه نزاع مشهور‏.‏ ولهذا صار المسلمون بمني يرمون، ثم يذبحون النسك، اتباعًا لسنته صلى الله عليه وسلم‏.‏

فما فعله على وجه التقرب كان عبادة تفعل على وجه التقرب، وما أعرض عنه ولم يفعله مع قيام السبب المقتضي لم يكن عبادة ولا مستحبًا‏.‏ وما فعله على وجه الإباحة من غير قصد التعبد به كان مباحًا‏.‏ ومن العلماء من يستحب مشابهته في هذا في الصورة كما كان ابن عمر يفعل، وأكثرهم يقول‏:‏ إنما تكون المتابعة إذا قصدنا ما قصد، وأما المشابهة في الصورة من غير مشاركة في القصد والنية فلا تكون متابعة‏.‏ فما فعله على غير العبادة فلا يستحب أن يفعل على وجه العبادة، فإن ذلك ليس بمتابعة، بل مخالفة‏.‏ وقد ثبت في الصحيح أنه كان يصلى حيث أدركته الصلاة‏.‏ وثبت في الصحيح أنه قال لأبي ذر ـ حين سأله‏:‏ أي مسجد وضع في الأرض أول‏؟‏ فقال ـ‏:‏ ‏(‏المسجد الحرام، ثم المسجد الأقصى، ثم حيثما أدركتك الصلاة فصل، فإنه مسجد‏)‏‏.‏ وروي في /الصحيح‏:‏ ‏(‏فإن فيه الفضل‏)‏‏.‏ فمن أدركته الصلاة هو وأصحابه بمكان، فتركوا الصلاة فيه، وذهبوا إلى مكان آخر؛ لكونه فيه أثر لبعض الأنبياء، فقد خالفوا السنة‏.‏ وقد رأي عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قومًا ينتابون مكانًا صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ هذا مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال‏:‏ ومكان صلى فيه رسول الله‏؟‏‏!‏ أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد‏؟‏ إنما هلك بنو إسرائيل بمثل هذا، فمن أدركته الصلاة فيه فليصل فيه، وإلا فليذهب‏.‏

فمسجده المفضل لما كان يفضل الصلاة فيه كان مستحبًا، فكيف وقد قال‏:‏ ‏(‏صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد‏:‏ المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا‏)‏‏.‏ وهذه الفضيلة ثابتة له قبل أن تدخل فيه الحجرة‏.‏ بل كان حينئذ الذين يصلون فيه أفضل ممن صلى فيه إلى يوم القيامة‏.‏ ولا يجوز أن يظن أنه بعد دخول الحجرة فيه صار أفضل مما كان في حياته وحياة خلفائه الراشدين، بل الفضيلة إن اختلفت الأزمنة والرجال، فزمنه وزمن الخلفاء الراشدين أفضل، ورجاله أفضل‏.‏ فالمسجد حينئذ قبل دخول الحجرة فيه كان أفضل إن اختلفت الأمور، وإن لم تختلف /فلا فرق‏.‏ وبكل حال فلا يجوز أن يظن أنه صار بدخول الحجرة فيه أفضل مما كان‏.‏ وهم لم يقصدوا دخول الحجرة فيه، وإنما قصدوا توسيعه بإدخال حجـر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلت فيه الحجرة ضرورة، مع كراهة من كره ذلك من السلف‏.‏

والمقصود أن ما بني الله من المساجد فضيلتها بعبادة الله فيها وحده لا شريك له، وبمن عبد الله فيها من الأنبياء والصالحين وببنائها لذلك‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ على التَّقْوَي مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تَقْوَي مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 108، 109‏]‏‏.‏

 والأعمال تفضل بنيات أصحابها، وطاعتهم لله تعالى، وما في قلوبهم من الإيمان بطاعتهم لله، كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم‏)‏‏.‏ وبذلك يثابون، وعلى ترك ما فرضه الله يعاقبون، وبذلك يندفع عنهم بلاء الدنيا والآخرة‏.‏ وما أصابهم من المصائب فبذنوبهم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 7‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏، قال العلماء‏:‏ أي ما أصابك من نصر ورزق وعافية فهو من نعم الله عليك، وما أصابك من المصائب فبذنوبك‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ‏}‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 30‏]‏، كما أنهم متفقون كلهم على أنه لا تكون العبادة إلا لله وحده، ولا يكون التوكل إلا عليه وحده، ولا تكون الخشية والتقوي إلا لله وحده‏.‏

والرسول صلى الله عليه وسلم له حق لا يشركه فيه أحد من الأمة، مثل وجوب طاعته في كل ما يوجب ويأمر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 80‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 64‏]‏‏.‏ ولهذا كانت مبايعته مبايعة لله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏10‏]‏، فإنهم عاقدوه على أن يطيعوه في الجهاد ولا يفروا وإن ماتوا‏.‏ وهذه الطاعة له هي طاعة الله‏.‏

وعلينا أن يكون الرسول أحب إلىنا من أنفسنا وآبائنا وأبنائنا وأهلينا وأموالنا، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين‏)‏ رواه البخاري ومسلم، وفي لفظ لمسلم‏:‏ ‏(‏وأهله وماله‏)‏‏.‏ وفي البخاري عن عبد الله بن هشام أنه قال‏:‏ كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، /فقال له عمر‏:‏ يا رسول الله، لأنت أحب إلى من كل شيء إلا من نفسي‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك‏)‏‏.‏ فقال له عمر‏:‏ فإنك الآن والله لأنت أحب إلى من نفسي‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الآن يا عمر‏)‏‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إليكم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 24‏]‏، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏النَّبِيُّ أَوْلَي بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏أنا أولي بكل مؤمن من نفسه‏)‏‏.‏

وذلك أنه لا نجاة لأحد من عذاب الله، ولا وصول له إلى رحمة الله، إلا بواسطة الرسول؛ بالإيمان به ومحبته وموالاته واتباعه‏.‏ وهو الذي ينجيه الله به من عذاب الدنيا والآخرة‏.‏ وهو الذي يوصله إلى خير الدنيا والآخرة‏.‏ فأعظم النعم وأنفعها نعمة الإيمان، ولا تحصل إلا به صلى الله عليه وسلم، وهو أنصح وأنفع لكل أحد من نفسه وماله‏.‏فإنه الذي يخرج الله به من الظلمات إلى النور،لا طريق له إلا هو،وأما نفسه وأهله فلا يغنون عنه من الله شيئًا‏.‏

وهو دعا الخلق إلى الله بإذن الله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إلى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 45، 46‏]‏، والمخالف له يدعو إلى غير الله بغير إذن الله‏.‏ ومن اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه إنما يدعو إلى الله ورسوله‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِإِذْنِهِ‏}‏ أي‏:‏ بأمره وما أنزله من العلم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلى اللّهِ على بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 108‏]‏، فمن اتبع الرسول دعا إلى الله على بصيرة، أي على بينة وعلم يدعو إليه بمنزل من الله، بخـلاف الذي يأمر بما لا يعلم، أو بما لم ينزل به وحيًا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 71‏]‏‏.‏ط

وكل ما أمر الله به أو ندب إليه من حقوقه صلى الله عليه وسلم فإنه لا يختص بحجرته لا من داخل ولا من خارج، بل يفعل في جميع الأمكنة التي شرع فيها‏.‏ فليس فعل شيء من حقوقه صلى الله عليه وسلم كالإيمان به، ومحبته، وموالاته، وتبليغ العلم عنه، والجهاد على ما جاء به، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، والصلاة والسلام عليه، وكل ما يحبه الله ويتقرب إليه، ليس شيء من ذلك عند حجرته أفضل منه فيما بعد عن الحجرة، لا الصلاة والسلام عليه ولا غير ذلك من حقوقه، بل قد نهى هو صلى الله عليه وسلم أن يجعل بيته عيدًا‏.‏ فنهى أن يقصد بيته بتخصيص شيء من ذلك‏.‏ فمن قصد أو اعتقد أن /فعل ذلك عند الحجرة أفضل فهو مخالف له صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهذا مما كان مشروعا كالإيمان به‏.‏ والشهادة له بأنه رسول الله والصلاة والسلام عليه‏.‏ وأما ما لم يشرعه الله ولم ينزل به سلطانا إليه، بل نهى عنه صلى الله عليه وسلم، كدعاء غير الله وعبادتهم من جميع المخلوقات، الملائكة والأنبياء وغيرهم، والحج إلى المخلوقين وإلى قبورهم ـ فهذه إنما يأمر بها من ليس معهم بذلك علم ولا وحي منزل من الله، فهم يضاهون الذين يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا، وما ليس لهم به علم، أو هم نوع منهم‏.‏

وقد ميز الله بين حقه وحق الرسول في مثل قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 52‏]‏، فالطاعة لله والرسول، والخشية لله وحده، والتقوي لله وحده، لا يخشي مخلوق ولا يتقي مخلوق، لا ملك ولا نبي ولا غيرهما‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏51، 52‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَإلىوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَي الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَي أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 18‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وكذلك ميز بين النوعين في قوله تعالى‏:‏‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إلى اللّهِ رَاغِبُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 59‏]‏، ففي الإيتاء قال‏:‏ ‏(‏آتاهم الله ورسوله‏)‏؛ لأن الرسول هو الواسطة بيننا وبين الله في تبليغ أمره ونهىه وتحليله وتحريمه ووعده ووعيده‏.‏ فالحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏، فلهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 59‏]‏، ولم يقل هنا‏:‏ ‏(‏ورسوله‏)‏؛ لأن الله وحده حسب جميع عباده المؤمنين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 64‏]‏، أي‏:‏ هو حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّي الصَّالِحِينَ ‏[‏الأعراف‏:‏ 196‏]‏ ذكر هذا بعد قوله‏:‏ ‏{‏إ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ‏}‏ إلى قوله ‏:‏‏{‏قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّي الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏194‏:‏ 196‏]‏‏.‏ عن ابن عباس قال‏:‏ هم الذين لا يعدلون بالله فيتولاهم وينصرهم، ولا تضرهم عداوة من عاداهم‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 51‏]‏‏.‏ ثم قال تعالى مما يأمرهم‏:‏ ‏{‏سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إلى اللّهِ رَاغِبُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 59‏]‏، فأمرهم أن / يجعلوا الرغبة لله وحده كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإلى رَبِّكَ فَارْغَبْ‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 7، 8‏]‏؛ وهذا لأن المخلوق لا يملك للمخلوق نفعا ولا ضرا‏.‏ وهذا عام في أهل السموات وأهل الأرض، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 56، 57‏]‏‏.‏

قال طائفة من السلف؛ ابن عباس وغيره‏:‏ هذه الآية في الذين عبدوا الملائكة والأنبياء كالمسيح وعزير‏.‏ وقال عبد الله بن مسعود‏:‏ كان قوم من الإنس يعبدون قوما من الجن فأسلم الجن وبقي أولئك على عبادتهم‏.‏ فالآية تتناول كل من دعا من دون الله من هو صالح عند الله من الملائكة والإنس والجن، قال تعالى‏:‏ هؤلاء الذين دعوتموهم ‏{‏فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 56، 57‏]‏‏.‏ قال أبو محمد عبد الحق ابن عطية في تفسيره‏:‏ أخبر الله تعالى أن هؤلاء المعبودين يطلبون التقرب إليه، والتزلف إليه، وأن هذه حقيقة حالهم‏.‏ والضمير في ‏{‏ربهم‏}‏ للمبتغين أو للجميع‏.‏ و‏{‏الوسيلة‏}‏ هي القربة وسبب الوصول إلى البغية، وتوسل الرجل إذا طلب الدنو والنيل لأمر ما، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ /‏(‏من سأل الله لي الوسيلة‏)‏ الحديث، وهذا الذي ذكره ذكر سائر المفسرين نحوه إلا أنه برز به على غيره فقال‏:‏ و ‏{‏أيهم‏}‏ ابتداء، وخبره ‏{‏أقرب‏}‏ و‏{‏أولئك‏}‏ يراد بهم المعبودون، وهو ابتداء، وخبره ‏{‏يبتغون‏}‏‏.‏ والضمير في ‏{‏يدعون‏}‏ للكفار وفي يبتغون للمعبودين‏.‏ والتقدير نظرهم وذكرهم أيهم أقرب‏.‏ وهذا كما قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في حديث الراية بخيبر‏:‏ فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، أي يتبارون في طلب القرب‏.‏ قال ـ رحمه الله ـ‏:‏ وطفف الزجاج في هذا الموضع فتأمله‏.‏

ولقد صدق في ذلك، فإن الزجاج ذكر في قوله‏:‏ ‏{‏أيهم أقرب‏}‏ وجهين كلاهما في غاية الفساد‏.‏ وقد ذكر ذلك عنه ابن الجوزي وغيره وتابعه المهدوي والبغوي وغيرهما‏.‏ ولكن ابن عطية كان أقعد بالعربية والمعاني من هؤلاء، وأخبر بمذهب سيبويه والبصريين، فعرف تطفيف الزجاج مع علمه ـ رحمه الله ـ بالعربية وسبقه ومعرفته بما يعرفه من المعاني والبيان‏.‏ وأولئك لهم براعة وفضيلة في أمور يبرزون فيها على ابن عطية‏.‏ لكن دلالة الألفاظ من جهة العربية هو بها أخبر، وإن كانوا هم أخبر بشيء آخر من المنقولات أو غيرها‏.‏

وقد بين ـ سبحانه وتعالى ـ أن المسيح وإن كان رسولا كريما، فإنه عبد الله، فمن عبده فقد عبد ما لا ينفعه ولا يضره، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عليه الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ إلىمٌ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إلى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّي يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعلىمُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 72‏:‏ 76‏]‏‏.‏

وقد أمر تعالى أفضل الخلق أن يقول‏:‏إنه لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعا، ولا يملك لغيره ضرا ولا رشدا، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 188‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 21‏:‏ 23‏]‏، يقول‏:‏ لن يجيرني من الله أحد إن عصيته كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 15 ولن أجد من دونه ملتحدا، أي‏:‏ ملجأ ألجأ إليه، إلا بلاغا من الله ورسالاته، أي لا يجيرني منه أحد إلا طاعته أن أبلغ ما أرسلت به إليكم، فبذلك تحصل الإجارة والأمن‏.‏ وقيل أيضا‏:‏ لا / أملك لكم ضرا ولا رشدا‏:‏ لا أملك إلا تبليغ ما أرسلت به منه‏.‏ ومثل هذا في القرآن كثير‏.‏

 فتبين أن الأمن من عذاب الله وحصول السعادة إنما هو بطاعته تعالى لقوله‏:‏ ‏{‏مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 147‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قٍلً مّا يّعًبّأٍ بٌكٍمً رّبٌَي لّوًلا دٍعّاؤٍكٍمً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 77‏]‏، أي‏:‏لو لم تدعوه كما أمر فتطيعوه فتعبدوه وتطيعوا رسله، فإنه لا يعبأ بكم شيئا‏.‏

وهذه الوسيلة التي أمر الله أن تبتغي إليه، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إليه الْوَسِيلَةَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 35‏]‏، قال عامة المفسرين؛ كابن عباس ومجاهد وعطاء والفراء‏:‏ الوسيلة‏:‏ القربة‏.‏ قال قتادة‏:‏ تقربوا إلى الله بما يرضيه‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ توسلت إليه‏:‏ أي تقربت‏.‏ وقال عبد الرحمن بن زيد‏:‏ تحببوا إلى الله‏.‏ والتحبب والتقرب إليه إنما هو بطاعة رسوله‏.‏ فالإيمان بالرسول وطاعته هو وسيلة الخلق إلى الله، ليس لهم وسيلة يتوسلون بها البتة إلا الإيمان برسوله وطاعته‏.‏ وليس لأحد من الخلق وسيلة إلى الله تبارك وتعالى إلا بوسيلة الإيمان بهذا الرسول الكريم وطاعته‏.‏ وهذه يؤمر بها الإنسان حيث كان من الأمكنة، وفي كل وقت‏.‏ وما خص من العبادات بمكان كالحج، أو زمان كالصوم والجمعة، فكل في مكانه وزمانه‏.‏ وليس لنفس الحجرة من داخل ـ فضلا عن جدارها من خارج ـ اختصاص بشيء في شرع / العبادات ولا فعل شيء منها‏.‏ فالقرب من الله أفضل منه بالبعد منه باتفاق المسلمين‏.‏ والمسجد خص بالفضيلة في حياته صلى الله عليه وسلم قبل وجود القبر، فلم تكن فضيلة مسجده لذلك، ولا استحب هو صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه ولا علماء أمته أن يجاور أحد عند قبر، ولا يعكف عليه، لا قبره المكرم ولا قبر غيره ولا أن يقصد السكني قريبا من قبر، أي قبر كان‏.‏

وسكني المدينة النبوية هو أفضل في حق من تتكرر طاعته لله ورسوله فيها أكثر ‏.‏ كما كان الأمر لما كان الناس مأمورين بالهجرة إليها‏.‏ فكانت الهجرة إليها والمقام بها أفضل من جميع البقاع، مكة وغيرها‏.‏ بل كان ذلك واجبا من أعظم الواجبات‏.‏ فلما فتحت مكة قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية‏)‏، وكان من أتي من أهل مكة وغيرهم ليهاجر ويسكن المدينة، يأمره أن يرجع إلى مدينته، ولا يأمره بسكناها‏.‏ كما كان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يأمر الناس عقب الحج أن يذهبوا إلى بلادهم لئلا يضيقوا على أهل مكة‏.‏ وكان يأمر كثيرا من أصحابه وقت الهجرة أن يخرجوا إلى أماكن أخر لولاية مكان وغيره، وكانت طاعة الرسول بالسفر إلى غير المدينة أفضل من المقام عنده بالمدينة حين كانت دار الهجرة، فكيف بها بعد ذلك‏؟‏ / إذ كان الذي ينفع الناس طاعة الله ورسوله‏.‏ وأما ما سوي ذلك فإنه لا ينفعهم لا قرابة ولا مجاورة ولا غير ذلك، كما ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئا‏.‏ يا عباس عم رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئا‏)‏‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنما ولي الله وصالح المؤمنين‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏إن أوليائي المتقون، حيث كانوا ومن كانوا‏)‏‏.‏

وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 38‏]‏، فهو تبارك وتعالى يدافع عن المؤمنين حيث كانوا‏.‏ فالله هو الدافع، والسبب هو الإيمان‏.‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته‏:‏ ‏(‏من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئا‏)‏، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عليهم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 69‏]‏‏.‏

وأما ما يظنه بعض الناس من أن البلاء يندفع عن أهل بلد أو إقليم بمن هو مدفون عنـدهم مـن الأنبياء والصالحـين،كما يظن بعض الناس أنه يندفع عن أهل بغداد البلاء لقبور ثلاثة‏:‏أحمد بن حنبل،وبشر الحافي، ومنصور بن عمار، ويظن بعضهم أنه يندفع البلاء عن / أهل الشام بمن عندهم من قبور الأنبياء‏:‏ الخليل وغيره ـ عليهم السلام ـ وبعضهم يظن أنه يندفع البلاء عن أهل مصر بنفيسة أو غيرها‏.‏ أو يندفع عن أهل الحجاز بقبر النبي صلى الله عليه وسلم وأهل البقيع أو غيرهم، فكل هذا غلو مخالف لدين الإسلام، مخالف للكتاب والسنة والإجماع‏.‏ فالبيت المقدس كان عنده من قبور الأنبياء والصالحين ما شاء الله، فلما عصوا الأنبياء وخالفوا ما أمر الله به ورسله سلط عليهم من انتقم منهم‏.‏ والرسل الموتي ما عليهم إلا البلاغ المبين،وقد بلغوا رسالة ربهم‏.‏وكذلك نبيـنا صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى في حقه‏:‏ ‏{‏إِنْ عليك إِلَّا الْبَلَاغُ‏}‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 48‏]‏،وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا على الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 18‏]‏‏.‏

وقد ضمن الله لكل من أطاع الرسول أن يهديه وينصره‏.‏ فمن خالف أمر الرسول استحق العذاب ولم يغن عنه أحد من الله شيئا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا عباس عم رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئا‏.‏ يا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئا‏.‏ يا فاطمة بنت رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئا‏)‏‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم لمن ولاه من أصحابه‏:‏ ‏(‏لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول‏:‏ يا رسول الله، أغثني‏.‏ فأقول‏:‏ لا أملك لك من الله شيئا، قد بلغتك‏)‏‏.‏ وكان أهل المدينة في خلافة / أبي بكر وعمر وصدر من خلافة عثمان على أفضل أمور الدنيا والآخرة، لتمسكهم بطاعة الرسول‏.‏ ثم تغيروا بعض التغير بقتل عثمان ـ رضي الله عنه ـ وخرجت الخلافة النبوية من عندهم، وصاروا رعية لغيرهم‏.‏ ثم تغيروا بعض التغير فجري عليهم عام الحرة من القتل والنهب وغير ذلك من المصائب ما لم يجر عليهم قبل ذلك‏.‏ والذي فعل بهم ذلك وإن كان ظالما معتديا فليس هو أظلم ممن فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما فعل، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّي هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 165‏]‏، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون مدفونين بالمدينة‏.‏

وكذلك الشام، كانوا في أول الإسلام في سعادة الدنيا والدين، ثم جرت فتن وخرج الملك من أيديهم، ثم سلط عليهم المنافقون الملاحدة والنصاري بذنوبهم، واستولوا على بيت المقدس وقبر الخليل، وفتحوا البناء الذي كان عليه وجعلوه كنيسة‏.‏ ثم صلح دينهم فأعزهم الله ونصرهم على عدوهم لما أطاعوا الله ورسوله واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم‏.‏ فطاعة الله ورسوله قطب السعادة وعليها تدور، ‏{‏وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عليهم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 69‏]‏، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته‏:‏ ‏(‏من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فلا يضر إلا /نفسه، ولا يضر الله شيئا‏)‏‏.‏

ومكة نفسها لا يدفع البلاء عن أهلها ويجلب لهم الرزق إلا بطاعتهم لله ورسوله‏.‏ كما قال الخليل ـ عليه السلام ـ‏:‏ ‏{‏رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إليهمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 37‏]‏‏.‏ وكانوا في الجاهلية يعظمون حرمة الحرم، ويحجون ويطوفون بالبيت، وكانوا خيرا من غيرهم من المشركين‏.‏ والله لا يظلم مثقال ذرة‏.‏ وكانوا يكرمون ما لا يكرم غيرهم، ويؤتون ما لا يؤتاه غيرهم، لكونهم كانوا متمسكين بدين إبراهيم بأعظم مما تمسك به غيرهم‏.‏ وهم في الإسلام إن كانوا أفضل من غيرهم كان جزاؤهم بحسب فضلهم، وإن كانوا أسوأ عملا من غيرهم كان جزاؤهم بحسب سيئاتهم‏.‏ فالمساجد والمشاعر إنما ينفع فضلها لمن عمل فيها بطاعة الله عز وجل‏.‏ وإلا فمجرد البقاع لا يحصل بها ثواب ولا عقاب، وإنما الثواب والعقاب على الأعمال المأمور بها والمنهى عنها‏.‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخي بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء، وكان أبو الدرداء بدمشق وسلمان الفارسي بالعراق، فكتب أبو الدرداء إلى سلمان‏:‏ هلم إلى الأرض المقدسة‏.‏ فكتب إليه سلمان‏:‏ إن الأرض لا تُقدس أحدا، وإنما يقدس الرجل عمله‏.‏

 والمقام بالثغور للجهاد أفضل من سكني الحرمىن باتفاق العلماء‏.‏ /ولهذا كان سكني الصحابة بالمدينة أفضل للهجرة والجهاد‏.‏

والله تعالى هو الذي خلق الخلق، وهو الذي يهديهم ويرزقهم وينصرهم، وكل من سواه لا يملك شيئا مـن ذلك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 22، 23‏]‏، وقد فسروها بأنه يؤذن للشافع والمشفوع له جميعا، فإن سيد الشفعاء يوم القيامة محمد صلى الله عليه وسلم إذا أراد الشفاعة قال‏:‏ ‏(‏فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا وأحمده بمحامد يفتحها على لا أحسنها الآن، فيقال لي‏:‏ ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة‏)‏‏.‏ وكذلك ذكر في المرة الثانية والثالثة‏.‏

ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 86‏]‏، فأخبر أنه لا يملكها أحد دون الله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ استثناء منقطع، أي‏:‏ من شهد بالحق وهم يعلمون هم أصحاب الشفاعة منهم الشافع ومنهم المشفوع له‏.‏ وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأله أبو هريرة فقال‏:‏ من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول اللّه‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏يا أبا هريرة، لقد ظننت ألا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، / لما رأيت من حرصك على الحديث‏.‏ أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال‏:‏ لا إله إلا الله، خالصا من قلبه‏)‏‏.‏ رواه البخاري فجعل أسعد الناس بشفاعته أكملهم إخلاصا‏.‏ وقال في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا على، فإنه من صلى على مرة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة‏)‏‏.‏ فالجزاء من جنس العمل، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا‏.‏ ومن سأل الله له الوسيلة حلت عليه شفاعته يوم القيامة‏.‏ ولم يقل كان أسعد الناس بشفاعتي بل قال‏:‏ ‏(‏أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال‏:‏ لا إله إلا الله خالصا من قلبه‏)‏‏.‏

فعلم أن ما يحصل للعبد بالتوحيد والإخلاص من شفاعة الرسول، وغيرها لا يحصل بغيره من الأعمال، وإن كان صالحا كسؤاله الوسيلة للرسول فكيف بما لم يأمر به من الأعمال، بل نهى عنه‏؟‏ فذاك لا ينال به خيرا لا في الدنيا ولا في الآخرة، مثل غلو النصاري في المسيح عليه السلام، فإنه يضرهم ولا ينفعهم‏.‏ ونظير هذا ما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن لكل نبي دعوة مستجابة، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتى يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك /بالله شيئا‏)‏‏.‏ وكذلك في أحاديث الشفاعة كلها، إنما يشفع في أهل التوحيد، فبحسب توحيد العبد لله وإخلاصه دينه لله يستحق كرامة الشفاعة وغيرها‏.‏

وهو ـ سبحانه ـ علق الوعد والوعيد والثواب والعقاب والحمد والذم بالإيمان به وتوحيده وطاعته، فمن كان أكمل في ذلك كان أحق بتولي الله له بخير الدنيا والآخرة‏.‏ ثم جميع عباده مسلمهم وكافرهم هو الذي يرزقهم، وهو الذي يدفع عنهم المكاره، وهو الذي يقصدونه في النوائب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإليه تَجْأَرُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 53‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 42‏]‏، أي بدلا عن الرحمن‏.‏ هذا أصح القولين، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 60‏]‏، أي‏:‏ لجعلنا بدلا منكم كما قاله عامة المفسرين، ومنه قول الشاعر‏:‏

فليت لنا من ماء زمزم شـربة**مبردة باتت على طهيـان

أي بدلا من ماء زمزم‏.‏ فلا يكلأ الخلق بالليل والنهار فيحفظهم ويدفع عنهم المكاره إلا الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏20، 21‏]‏‏.‏

/ومن ظن أن أرضا معينة تدفع عن أهلها البلاء مطلقا لخصوصها، أو لكونها فيها قبور الأنبياء والصالحين، فهو غالط‏.‏ فأفضل البقاع مكة، وقد عذب الله أهلها عذابا عظيما، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ َأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏112، 113‏]‏‏.‏